المقالات والنشرة الإخبارية

أخر الأخبار 15 يونيو 2022

إحياء شبكات المياه القديمة، الخطارات .. الفكارات .. والأفلاج

تفتقد العديد من الأقاليم العربية إلى المصادر الدائمة للمياه، لذا فقد عرفت هذه  المناطق ابتكارات هندسية رائعة و أساليب تقليدية لحفظ و تخزين و توصيل المياه.   

واليوم ومع انتشار موجات الجفاف بسبب أزمة التغيير المناخي العالمي أصبحت العودة لمثل هذه الأساليب التقليدية بالغة الأهمية في العديد من المشاريع الهادفة إلى حل الأزمة المائية ومواجهة موجات الجفاف التي ازداد انتشارها بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية.

لقد تسببت سنوات الجفاف الطويلة في تجفيف شبكات المياه الموجودة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. ولكن أدى هطول الأمطار الذي تجدد على مدار السنوات الماضية إلى إعادة إحياء هذه المسارات المائية.

تبعث أسماء الأنفاق التي تحمل هذه القنوات المائية إلى الأذهان أصوات المياه المترقرقة، سواء أكانت الخطارات في المغرب أو الفكارات في الجزائر أو الأفلاج في عمان والسعودية. هذه الممرات الجوفية لتسريب المياه هي أكثر التعبيرات التي تعبر عن استعادة المجتمعات المحلية للنظم التي كان يستخدمها القدماء بصورة أصيلة ومتميزة. وكما يوضح الباحثون، فقد تم تجديد تلك المنابع للمياه في وسط الصحراء التي كان معظمها مهملاً في السابق بواسطة سكان الواحات.

هذه المجتمعات تستثمر الآن من جديد في صيانة الخطارات وفي الزراعة، خاصة الشباب الذين عادوا إلى مواطنهم الريفية بعد أن تجرعوا مرارة البطالة في البلدات والمدن. لا شك أن هذه مخاطرة بالنظر إلى تغيرات المناخ التي لا يمكن معرفتها يقينا، لكن من المفترض تماما أن تقوم بإحياء العمل الجماعي وأن تعيد تنظيم القواعد التي تحكم الحصول على موارد المياه، توقعا وبحق لنقص في المياه في الأعوام القادمة.

إن موروث المنشآت المائية القديمة التي توجد حول حوض المتوسط يعود من جديد إلى الحياة. فعلى مدار السنوات العشر الماضية، أعادت وفرة المياه هذه الوسائل القديمة إلى حالتها السابقة بعد إمدادها بالمياه. فقد بيّن فريق من الباحثين من جامعة القاضي عياض في مراكش وكلية الآداب والعلوم الإنسانية في أغادير، أن المجتمعات المحلية تستثمر من جديد في هذه الشبكات، التي أُهمِلت في السابق خلال سنوات طوال من الجفاف.

أكثر الأمثلة تقليدية وأصالة وتطورا على هذا الإحياء هي ممرات التسريب الجوفية، الأنفاق المعروفة منذ القدم باسم الخطارات في المغرب، الأفلاج في عمان، و الفكارات في الجزائر. هذه المنابع المائية حاصل تقنية تقليدية انتشرت على نطاق واسع منذ القرن الثاني عشر في شمال غرب أفريقيا لخلق واحات صناعية في الصحراء الكبرى.

الدراية التقنية عالية المستوى التي تقف وراء هذه النظم التي يمتد عمرها إلى قرون:

تسهم هذه الأنفاق في توصيل المياه من شبكة المياه الجوفية. تقف المبادئ المستخدمة في الإنشاء شاهدة على معرفة وثيقة وتمكن تقني متطور. وتتلخص في الحفر في جانب تل لخلق قناة جوفية تمتد لمسافة تكفي لكي تلتقي بطبقة من المياه الجوفية الضحلة. ويتم تنفيذ القناة بميل قليل إلى الأسفل بحيث يسمح للماء بالانسياب إلى الأسفل تحت تأثير الجاذبية بمعدل تفريغ ثابت تقريبا، بحيث ينبع عند سفح التل.  وعند الملاحظة من سطح الأرض، لا نجد إلا خطا من المخروطات المميِّزة الصغيرة من التربة تمتد على مدى عدة كيلومترات لتنبئ عن وجود هذه الأعمال الهندسية تحت أقدامنا. إنها أعمدة إزالة الركام التي تحدد مسار النفق، على بعد 30 متر، وتستخدم كنقاط وصول لأغراض الصيانة.

نموذج المغرب

قد يمتد طول الأنفاق من 5 إلى 20 كيلومتر بارتفاع من 2 إلى 4 متر ولكن باتساع يصل بالكاد إلى 50 سنتيمتر. يقع أحد الأمثلة في إقليم تافيلالت في المغرب، في منطقة مكناس، حيث تمت صيانة أنفاق الخطارات، التي ركز الفريق البحثي دراساته عليها. وتم رصد ما مجموعه 450 نفقا منها في هذه المنطقة. تم حفر هذه القنوات من نهاية القرن الثامن عشر أو بدايات القرن التاسع عشر حتى عام 1950 ومكنت مجتمعاً يصل عدد سكانه إلى 600,000 نسمة، يعتمد 75% منهم على الزراعة، من الحياة في هذه المنطقة الممتدة عند سفح جبال أطلس محصورين بين الجبل والصحراء الكبرى.

لقد أضعف تحديث شبكات المياه العامة أثناء النصف الثاني من القرن الماضي، خاصة بإنشاء السدود والطفرة في الحفر الخاص، من دور الخطارات. وقد فُرِضت هذه الشبكات الحديثة على الأعمال التقليدية بطريق التقوية أو المنافسة، وتم إخراج عدد كبير من ممرات التسريب من الخدمة. ثم جففت الخطارات في فترات القحط الحادة التي ضربت المنطقة في السبعينات من القرن الماضي، ثم مرة أخرى من عام 1995 إلى عام 2005. قبل عدة أعوام، لم يكن متبقياً إلا بضع عشرات من الأنفاق العاملة بشكل دائم.

ولكن، عاد المطر الغزير المنتظم منذ شهر مايو 2006، وعاد مورد المياه الجوفية من جديد لتغذية منطقة تجميع مياه الأمطار أعلى بعض الممرات التي كانت مهملة كلياً أو جزئياً. فأخذت المجتمعات المحلية على عاتقها مسئولية تجديد هذه الممرات. فخلال خمسة أعوام في الجُرف غرب تافيلالت، تمت إعادة 50 قناة إلى العمل بفضل المبادرات المجتمعية. وتعمل السلطات المحلية والإقليمية المائية والسياسية الآن أيضاً على تحقيق نفس الهدف وتنفيذ مخطط إعادة تأهيل الخطارات.

تعطي هذه الدفعة الجديدة لموروث المنشآت المائية للمجتمعات، الفرصة للسكان للاستثمار من جديد في الزراعة القائمة على الواحات، خاصة فيما يتعلق بالشباب العائدين من البلدات والمدن أساساً بسبب البطالة التي واجهتهم هناك، وبدأ مؤخراً، كثير من الشباب في العودة إلى الواحات ليضطلعوا بتجديد وصيانة الخطارات.

تقوم الشعوب المقيمة حول ساحل البحر المتوسط مثل المجتمعات التي تعيش في الواحات بتجديد شبكات المياه القديمة، بطريقة شبيهة بالمتبعة في أطلس المغرب المرتفع، أو جبال الألب، أو جبال البيرينيه، أو من جديد في جبال لبنان حيث يضخون من جديد حياة جديدة في المروج المدرّجة الرائعة التي كوَّنوها على مر القرون الماضية.

ويتبقى التساؤل، على الرغم من ذلك، عما إذا كانت المياه ستبقى بنفس الكمية، وهي نقطة يصعب تأكيدها حسب رأي العلماء. ولكنها المخاطرة التي قبلت هذه المجتمعات الريفية أن تخوض غمارها. ولتجنب أي استخراج فردي آخر للمياه الجوفية عن طريق الضخ العشوائي، فقد أطلقوا عملاً جماعيا لإرساء مستوى جديد من العدالة في الحصول على إمدادات المياه مع مشهد يلوِّح بنقص جديد محتمل في المياه في السنوات القادمة.

تواصل مع الكاتب:  mmr@arsco.org

اقرأ أيضاً:

في التكامل والشمول تكمن الحلول

    اشترك معنا لتصلك نشرتنا الإخبارية